العبر و العظات :
1- وجه السرية فى بدء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم :
لا ريب أن تكتم النبى صلى اله عليه وسلم فى دعوته الى الإسلام ’ خلال هذه السنوات الأولى ’ لم يكن بسبب الخوف على نفسه ’ فهو حينما كلف بالدعوة ونزل عليه الوحى وقوله تعالى : ( يا أيها المدثر قم فأنذر ) علم أنه رسول الله الى الناس ’ وهو لذلك كان يوقن بأن الإله الذى ابتعثه وكلفه بهذه الدعوة قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس ’ على أن الله عز وجل لو أمره من اول يوم أن يصدع بالدعوة بين الناس علناً ’ لما توانى عن ذلك ساعة ’ ولو كان يتراءى له فى ذلك مصرعه .
ولكن الله عز وجل ألهمه - والإلهام للرسول نوع من الوحى - أن يبدأ الدعوة فى فترتها الأولى ’ بسرية وتكتم ’ وأن لا يلقى بها إلا من يغلب على ظنه أنه سيصيخ لها ويؤمن بها ’ تعليماً للدعاة من بعده ’ وإرشاداً لهم الى مشروعية الأخذ بالحيطة و الأسباب الظاهرة ’ وما يقرره التفكير و العقل السليم من الوسائل التى ينبغى أن تتخذ من أجل الوصول الى غايات الدعوة وأهدافها ’ على أن لا يتغلب كل ذلك على الإعتماد و الإتكال علىالله وحده وعلى ألا يذهب الإنسان فى التمسك بهذه الأسباب مذهباً يعطيها معنى التأثير و الفعالية فى تصوره وتفكيره ’ فهذا يخدش أصل الإيمان بالله تعالى ’ فضلا عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة الى الإسلام . ومن هنا تدرك ’ أن أسلوب دعوته عليه الصلاة و السلام فى هذه الفترة كان من قبيل السياسة الشرعية بوصف كونه إماماً ’ وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كونه نبياً .
وبناءاً على ذلك فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية ’ فى كل عصر أن يستعملوا المرونة فى كيفية الدعوة - من حيث التكتم و الجهر ’ أو اللين و القوة - حسبما تقتضيه الظروف وحال العصر الذى يعيشون فيه ’ وهى مرونة حددتها الشريعة الإسلامية ’ إعتماداً على واقع سيرته صلى الله عليه وسلم ’ ضمن الأشكال و المراحل الأربعة التى سبق ذكرها ’ على أن يكون النظر فى كل ذلك الى المصلحة للمسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية .
ومن أجل هذا أجمع جمهور الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدة بحيث يغلب عليهم الظن أنهم سيقتلون من غير أى نكاية فى أعدائهم ’ إذا ما أجمعوا قتالهم ’ فينبغى أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس ’ لأن المصلحة المقابلة وهى مصلحة حفظ الدين موهومة أو منفية الوقوع .
ويقرر العز ابن عبد السلام حرمة الخوض فى مثل هذا الجهاد قائلا : ( فإذا لم تحصل النكاية وجب الإنهزام ’ لما فى الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وارغام أهل الإسلام ’ وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ’ ليس فى طيها مصلحة )
قلت : وتقديم مصلحة النفس هنا ’ من حيث الظاهر فقط .
أما من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد ’ فإنها فى الواقع مصلحة دين ’ إذ المصلحة الدينية تقتضى- فى مثل هذا الحال - أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكى يتقدموا ويجاهدوا فى الميادين المفتوحة الأخرى ’ وإلا هلاكهم يعتبر إضراراً بالدين نفسه وفسحاً للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدوداً أمامهم من السبل .
و الخلاصة أنه يجب المسالمة أو الإسرار بالدعوة إذا كان الجهر أو القتال يضر بها ولا يجوز الإسرار فى الدعوة إذا أمكن الجهر بها بها وكان ذلك مفيداً ’ ولا يجوز المسالمة مع الظالمين و المتربصين بها إذا توفرت أسباب القوة و الدفاع عنها ’ ولا يجوز القعود عن جهاد الكافرين فى عقر دارهم إذا ما توافرت وسائل ذلك و أسبابه .
2- الأوائل الذين دخلوا فى الإسلام و الحكمة من إسراعهم الى الإسلام قبل غيره :
وتحدثنا السيرة أن الذين دخلوا فى الإسلام فى هذه المرحلة كان معظمهم خليطا من الفقراء و الضعفاء و الأرقاء فما الحكمة من ذلك ؟ وما السر فى أن تأسس الدولة الإسلامية على أركان مثل هؤلاء الناس ؟ .
والجواب أن هذه الظاهرة هى الثمرة الطبيعية لدعوة الأنبياء فى فترتها الأولى ’ ألم تر الى قوم نوح كيف كانوا يعيرونه بأن أتباعه الذين من حوله ليسوا إلا من أراذل الناس ودهمائهم : ( ما نراك إلا بشرا مثلنا ’ وما نراك إتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى ) هود 27 ’ والى فرعون وشيعته كيف كانوا يرون أتباع موسى أذلاء مستضعفين ’ حتى قال الله عنهم بعد أن تحدث عن هلاك فرعون و أشياعه : ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركنا فيها ) الأعراف 137 ’ وإلى ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحاً ’ كيف تولى عنه الزعماء المستكبرون ’ وآمن به الناس المستضعفون ’ حتى قال الله فى ذلك : ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ؟ قالوا إنّا بما أرسل به مؤمنون ’ قال الذين استكبروا إنّا بالذى آمنتم به كافرون ) .
والسر فى ذلك أن حقيقة هذا الدين الذى بعث الله به عامة أنبيائه ورسله إنما هى الخروج عن سلطان الناس وحكمهم الى سلطان الله وحكمه وحده ’ وهى حقيقة تخدش أول ما تخدش ألوهية المتألهين وحاكمية المتحكمين وسطوة المتزعمين ’ وتناسب أول ما تناسب حالة المستضعفين و المستذلين و المستعبدين . فيكون رد الفعل أمام الدعوة الى الإسلام لله وحده وهو المكابرة و العناد من أولئك المتألهين و المتحكمين ’ والإذعان والإستجابة من هؤلاء المستضعفين ’ وانظر ’ فإن هذه الحقيقة تتجلى بوضوح فى الحديث الذى دار بين رستم قائد الجيش الفارسى فى وقعة القادسية ’ وربعى ابن عامر الجندى البسيط فى جيش سعد ابن أبى وقاص فقد قال له رستم : ما الذى دعاكم الى حربنا و الولوع بديارنا ؟ فقال : جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله وحده ’ ثم نظر الى صفوف الناس الراكعين عن يمين رستم وشماله ’ فقال متعجباً : ( لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ’ ولكنى لا أرى قوماً أسفه منكم ’ إننا معشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضا ’ ولقد ظننت أنكم تتواسون كما نتواسى ’ وكان أحسن من الذى تصنعون أن تخبرونى أن بعضكم أرباب بعض ....... )
فالتفت المستضعفون بعضهم الى بعض يتهامسون : صدق والله العربى .......
أمّا القادة والرؤساء فقد وجدوا فى كلام ربعى هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته ’ وقال بعضهم لبعض : ( لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه ) .
ولا يعنى هذا الكلام أن المستضعفين الذين أسرعوا الى الإسلام قبل غيرهم لم يكن دخولهم فيه عن إيمان بل عن قصد ورغبة فى التخلص من أذى المستكبرين وسلطانهم . ذلك لأن الإيمان بالله وحده والتصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ’ كان قدرا مشتركا بين زعماء قريش و مستضعفيها ’ فما منهم أحد إلا وهو يعلم صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربه ’ غير أن الزعماء و الكبراء فيهم كانت تصدهم زعامتهم عن الإنقياد و الإتباع له ’ وأجلى مثل على ذلك عمه أبو طالب . وأما الفقراء و المستضعفون فما كان ليصدهم عن التجاوب مع إيمانهم و الإنقياد له عليه الصلاة و السلام شىء ’ أضف الى ذلك ما يشعر به أحدهم عند إيمانه بألوهية الله وحده من الإعتزاز به وعدم الإكتراث بسلطان غير سلطانه أو قوة غير قوته ’ فهذا الشعور الذى هو ثمرة الإيمان بالله عز وجل ’ يزيد فى نفس الوقت قوة ويجعل صاحبه فى نشوة وسعادة غامرة .
ومن هنا تعلم عظم الفرية التى يفتريها بعض محترفى الغزو الفكرى فى هذا العصر ’ حينما يزعمون بأن الدعوة التى قام بها محمد صلى الله عليه وسلم ’ إنما هى من وحى بيئته العربية نفسها ’ وأنها إنما كانت تمثل حركة الفكر العربى إذ ذاك . فلو كان ذلك كذلك ’ لما كان رصيد هذه الدعوة خلال ثلاث سنوات من بدايتها أربعون رجلا وامرأة ’ عامتهم من الفقراء و المستضعفين والموالى و الأرقاء ’ وفى مقدمتهم أخلاط من مختلفى الأعاجم : صهيب الرومى ’ وبلال الحبشى .
وسوف تجد فى البحوث القادمة أن بيئته العربية نفسها هى التى أرغمته على الهجرة من بلاده و أرغمت أتباعه من حوله على التفرق هنا وهناك و الخروج الى بلاد الحبشة مهاجرين وذلك كراهية منها للدعوة التى زعموا أنه إنما كان يمثل بها نوازعها و أفكارها .