العبر و العظات :
نورد فى تعليقنا على هذا المقطع من سيرته صلى الله عليه وسلم أربعة أمور :
أولها : أهمية الكعبة ’ وما جعل الله لها من الشرف وقداسة فى الأرض ’ وحسبك الأدلة على ذلك أن الذى باشر تأسيسها وبناءها هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام بأمر من الله تعالى لتكون أول بيت لعبادة الله وحده ومثابة للناس و أمنا .
غير أن هذا لا يعنى أو يستلزم أن يكون للكعبة تأثير على الطائفين حولها أو العاكفين فيها ’ فهى (علىما لها من قداسة ووجاهة عظيمة عند الله ) حجارة لا تضر ولا تنفع . ولكن الله عز وجل لما بعث إبراهيم عليه السلام بتكسير الأصنام و الطواغيت وهدم بيوتها و القضاء على معالمها ونسخ عبادتها ’ إقتضت حكمته جل جلاله أن يشيد فوق الأرض بناءاً يكون شعاراً للتوحيد لله وعبادته وحده’ ويظل مع الدهرتعبيراً للعالم عن المعنى الصحيح للدين و العبادة وعن بطلان كل من الشرك و عبادة الأصنام ’ لقد قضت البشرية ردحاً من الزمن تدين العبادة للحجارة و الأصنام و الطواغيت وتنشىء لها المعابد ’ ولقد آن لها أن تدرك بطلان وزيف كل ذلك ’ وآن لها أن تستعيض عن تلك المعابد هذا الرمز الجديد ... هذا المعبد الذى أقيم لعبادة الله وحده ’ يدخله الإنسان ليقف عزيزاً لا يخضع ولا يذل إلا لخالق الكون كله ’ وإذا كان لابد للمؤمنين بوحدانية الله و الداخلين فى دينه من رابطة يتعارفون بها ’ ومثابة يؤوبون إليها ’ مهما تفرقت بلدانهم وتباعدت ديارهم واختلفت أجناسهم ولغاتهم - إذا كان لابد من ذلك فليس أجدر من هذا البيت الذى أقيم رمزاً لتوحيد الله ’ ورداً على باطل الشرك و الأصنام ’ من أن يكون هو الرابطة و المثابة لهم جميعاً ’ يتعارفون فى حماه ’ ويلتقون على الحق الذى شيّد ليكون تعبيراً عنه ’ فهو الشعار الذى يجسد وحدة المسلمين فى أقطار الأرض ’ ويعبر عن توحيد الله و العبادة له وحده مهما أقيم من آلهة زائفة وانتصب من متألهين باطلين على مر الأزمنة و العصور .
وهذا معنى قول الله تعالى ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ’ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)
وهذا هو المعنى الذى يلحظه الطائف بالبيت الحرام ’ بعد أن يملأ قلبه من معنى العبودية لله تعالى و القصد الى تحقيق أوامره من حيث إنها أوامر ومن حيث أنه عبد مكلف بتلبية الأمر وتحقيق المأمور به ’ ومن هنا جاءت قداسة البيت وعظم مكانته عند الله تعالى وكانت ضرورة الحج إليه و الطواف من حوله .
ثانيها : بيان أهم ما تعاقب على الكعبة من الهدم و البناء :
بنيت الكعبة خلال الدهر كله ’ أربع مرات بيقين ’ ووقع الخلاف و الشك فيما قبل هذه المرات الأربع :
فأما المرة الأولى منها : فهى التى قام بأمر البناء فيها إبراهيم عليه الصلاة و السلام يعينه إبنه إسماعيل عليه الصلاة و السلام ’ وذلك إستجابةمنه لأمر ربه جل جلاله ’ ثبت ذلك بصريح الكتاب و السنة الصحيحة ’ أما الكتاب فقول الله تعالى ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ’ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) البقرة 127 .
وأما السنة ’ فأحاديث كثيرة ’ منها ما رواه البخارى بسنده عن ابن عباس ’ وجاء فيه : ( .. ثم قال - أى إبراهيم - يا إسماعيل ’ إن الله أمرنى بأمر ’ قال : فاصنع ما أمرك به ربك ’ قال وتعيننى ؟ قال : وأعينك ’ قال فإن الله أمرنى أن أبنى ههنا بيتا ’ وأشار الى أكمة مرتفعة على ما حولها ’ قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ’ فجعل إسماعيل يأتى بالحجارة وإبراهيم يبنى ) صحيح البخارى
ونقل الزركشى عن تاريخ مكة للأزرقى أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام جعل طول بناء الكعبة فى السماء سبعة أذرع وطولها فى الأرض ثلاثين ذراعا وعرضها فى الأرض إثنين وعشرون ذراعا وكانت بغير سقف ’ وحكى السهيلى أن طولها فى السماء كان تسعة أذرع . أقول ولعل هذه أقرب من رواية الأزرقى .
وأما المرة الثانية : فهى تلك التى بنتها قريش قبل الإسلام ’ واشترك فى بنائها الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا ’ فجعلوا طولها فى السماء ثمانى عشر ذراعا ’ ونقصوا من طولها فى الأرض ستة أذرع وجزءا من الذراع تركوها فى الحجر .وفى ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة ( يا عائشة لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم .
وأما المرة الثالثة : فقد كانت عندما إحترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزتها جيوش من أهل الشام ’ وخلاصة ذلك أنهم حاصروا عبد الله بن الزبير بمكة بقيادة الحصين بن نمير السكونى فى آخر سنة ست وثلاثين ’ بأمر من يزيد ’ ورموا البيت بالمنجنيق ’ فتهدم واحترق ’ فانتظر ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم ’ فاستشارهم قائلا : أيها الناس أشيروا علىّ فى الكعبة ’ أنقضها ثم أبنى بناءها أو أصلح ما وهى منها ’ فقال له ابن عباس : أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجاراً أسلم الناس عليها ’ فقال ابن الزبير : لو كان أحدكم احترق بيته ما رضى حتى يجدّه فكيف بيت ربكم ؟ إنى مستخير ربى ثلاثاً ثم عازم على أمرى . ثم باشر نقضه بعد ثلاثة أيام حتى بلغوا به الأرض فأقام ابن الزبير أعمدة من حوله وأرخى عليها الستور ثم باشروا فى رفع بنائه وزاد فيه الأذرع الستة التى قد أخرجت منه ’ وزاد فى طوله الى السماء عشرة أذرع ’ وجعل له بابين أحدهما يدخل منه و الآخر يخرج منه . وإنما جرأه على إدخال هذه الزيادة حديث عائشة رضى الله عنها السابق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما المرة الرابعة : فقد كانت بعد مقتل ابن الزبير ’ روى الإمام مسلم بسنده عن عطاء أنه لما قتل عبد الله بن الزبير كتب الحجاج الى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسّ نظر إليه العدول من أهل مكة ’ فكتب إليه عبد الملك بن مروان أنّا لسنا من تلطيخ ابن الزبير فى شىء ’ أما مازاد فى طوله فأقره ’ وأما ما زاد فيه من الحجر فردّه الى بنائه ’ وسدّ الباب الذى فتحه ’ فنقضه و أعاده الى بنائه .
قالوا ’ وقد عزم الرشيد بعد ذلك على أن ينقضها ويعيدها كما بناها ابن الزبير ’ فقال له مالك ابن أنس رحمه الله : أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة الملوك من بعدك ’ لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلاّ غيره ’ فتذهب هيبته فى قلوب الناس ’ فصرفه عن رأيه فيه .
فهذه هى المرات الأربع التى بنيت فيها الكعبة بيقين .
أما الخامسة التى وقع فيها الشك و الخلاف ’ فهى تتعلق بما قبل إبراهيم عليه الصلاة و السلام ’ هل كانت الكعبة مبنية قبل ذلك أم لا ؟
جاء فى بعض الآثار و الروايات أن أول من بناها هو آدم عليه السلام ’ ومن أبرز ما ورد فى ذلك ما رواه البيهقى فى دلائل النبوة من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعث الله جبريل صلى الله عليه وسلم الى آدم وحواء فقال لهما : ( إبنيا لى بيتاً ) فخط لهما جبريل عليه الصلاة و السلام ’ فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أصابه الماء فنودى من تحته حسبك يا آدم ’ فلما بنياه أوحى الله إليه أن يطوف به ’ وقيل له أنت أول الناس ’ وهذا أول بيت ’ ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح عليه الصلاة و السلام ’ ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه ) .
ثم قال البيهقى تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعاً ’ ومعلوم أن ابن لهيعة ضعيف لا يحتج به . وهناك روايات وآثار قريبة فى المعنى من هذا الذى رواه البهقى إلاّ أن جميعها لا يخلو من ضعف أو نكارة ’ وقيل أيضا أن أول من بناه شيث عليه الصلاة و السلام .
فتكون الكعبة إذا إعتمدنا هذه الآثار و الروايات الضعيفة - قد بنيت خمس مرات خلال الدهر كله .
غير أن الأولى بالإعتماد هو ما ثبت يقينا من ذلك ’ وهو أنها بنيت أربع مرات كما أوضحنا ’ وأما ما وراء ذلك وما بين هذه المرات فنكل علمه الى الله تعالى ’ عدا عما لحقها من ترميمات و إصلاحات بعد ذلك .
ثالثها :- مدى حكمة النبى صلى الله عليه وسلم فى تدبير الأمور ’ وسياسة القضايا ’ وقطع دابر الخصومات ’’وبين من ؟ بين أقوام قلما قامت بينهم خصومة ثم نامت قبل أن تراق فيهم بسببها الدماء . وقد وصل بهم الخلاف كما تعلم الى درجة كادت أن ينشب فيما بينهم القتال ’ فقد قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم وبنو عدى على الموت ’ وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم ’ ةومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ’ دون أن يردها الى الوفاق أى رأى أو تدبير ’ حتى كان خمود نار الفتنة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم . ونحن ينبغى أن نحيل هذه المزية فيه صلى الله عليه وسلم ’ الى ما إختاره الله له من القيام بعبء الرسالة و النبوة ’ قبل أن نحيلها الى العبقرية التى جبل عليها صلى الله عليه وسلم و الذكاء الذى فطر عليه .
فالأساس الأول فى تكوينه صلى الله عليه وسلم أنه رسول و نبى ’ ثم تأتى المزايا الأخرى كلها من عبقرية و دهاء وذكاء مبنية على هذا الأساس ولاحقة به .
رابعها :- مدى سمو منزلته صلى الله عليه وسلم بين رجال قريش على إختلاف درجاتهم و طبقاتهم ’ فقد كان ملقباً عندهم بالصادق الأمين ’ وكان محبوباً منهم كلهم ’ وكانوا لا يرتابون فى صدقه إذا حدّث ’ وفى كريم أخلاقه إذا عومل ’ة وفى عظيم إخلاصه إذا استعين به واعتمد عليه .
وهذه ظاهرة تكشف لك عن مدى الحقد و العناد اللذين إمتلأت بهما أفئدة هؤلاء أنفسهم ’ بعد أن جاءتهم الرسالة من عند الله ’ وأخذ يبلغها الى هؤلاء القوم الذين قابلوه بالعناد و الإيذاء .