تأملات فى كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم الى مكة :
1- لقد رأينا فيما يرويه البخارى عن عبد الله ابن مغفل أنه صلى الله عليه وسلم كان وهو على مشارف مكة يقرأ سورة الفتح ’ يرجّع فى تلاوته لها ’ والترجيع كيفية فى القراءة يترنم بها القارىء ’ وهذا يدل كما نرى أنه صلى الله عليه وسلم كان مستغرقاً فى حالة شهود مع الله تعالى أثناء دخوله مكة ’ فما كانت لنشوة النصر و الظفر العظيم الى نفسه من سبيل ولم يكن شىء من التعاظم أو التجبر ليستولى على شىء من مشاعره ’ إنما هو الإنسجام التام مع شهود الله تعالى و الشكر على نصره وتأييده . ويزيد فى تصوير هذا المعنى ما رواه ابن اسحاق من أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل الى ذى طوى كان يضع راسه تواضعاً لله ’ حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ’ حتى أن عنثونه ليكاد يمس واسطة الرحل ’ وهذا يعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان مندمجاً فى حالة من العبودية التامة لله تعالى إذ رأى ثمرة القيام بأمر ربه ’ ونظر الى نتيجة كل ما قد كان لقيه من العذاب من قومه ’ وكيف أن الله تعالى أعاده الى البلد التى أخرجته عزيزاً منصوراً مكرماً !.. إنها الساعة التى ينبغى أن تمتلىء بشكر الله تعالى وحده ’ و ينبغى أن يفيض الزمن كله بمعنى العبودية التامة لله تعالى .
وهكذا يجب أن تكون حال المسلمين دائماً : عبودية مطلقة لله فى السراء و الضراء ’فى الرخاء و الشدة ’ عند الضعف و القوة ’ وليس من شأن المسلين إطلاقاً ’ أن يتظاهروا بالذل لله تعالى كلما حاقت بهم مصيبةأو كرب ’ حتى إذا إنكشف الكرب وزال الضر ’ أسكرتهم الفرحة بل أسكرهم الطغيان عن كل شىء ’ ومرّوا من جانب أوامر اله تعالى وأحكامه ساهين لا هين ’ كأن لم يدعوه الى ويتذللوا غليه فى كشف ضر مسّهم !..
2- يدلنا أيضا هذا الذى رواه البخارى على مشروعية الترنم و التغنى بقراءة القرآن وهو المعنىى الذى عبر عنه عبد الله ابن المغفل بالترجيع ’ وهو الحق الذى عليه عامة العلماء من الشافعية و الحنفية وكثير من المالكية وغيرهم . ولقد حمل هؤلاء الأئمة ما روى عن كثير من الصحابة و التابعين مما يدل علىالنهى عن التطريب و التغنى فى تلاوة القرآن ’ على التطريب الذى يطغى على سلامة الأداء ويذهب بالحروف و الكلمات عن مخارجها العربية الصحيحة ’ إذ أن مثل هذه التلاوة غير جائزة بإتفاق .
3- لقد كان التدبير الحكيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ’ ما أمر به أصحابه من أن يتفرقوا فى مداخل مكة ’ فلا يدخلوها من طريق ومدخل واحد ’ وذلك بغية تفويت فرصة القتال على أهل مكة إن أرادوا ذلك إذ يضطرون الى تشتيت جماعاتهم وتبديد قواهم فى جهات مكة وأطرافها فتضعف لديهم أسباب المقاومة و مغرياتها .
وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ’ حقناً للدماء ما أمكن ’ وحفظاً لمعنى السلامة والأمن فى البلدة الحرام ’ ومن أجل هذا أمر المسلمين أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم وأعلن أن من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن .