العبر و العظات :
إن لهذه الخلوة التى حببها الله تعالى إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل البعثة ’ دلالة عظيمة جداً ’ لها أهمية كبرى فى حياة المسلمين عامة و الداعين الى الله تعالى خاصة ’ فهى توضح أن المسلم لا يكمل إسلامه مهما كان متحلياً بالفضائل قائماً بألوان العبادات ’ حتى يجمع الى ذلك ساعات من العزلة و الخلوة يحاسب فيها نفسه ’ ويراقب الله تعالى ويفكر فى مظاهر الكون ’ ودلاءل ذلك على عظمة الله .
هذا فى حق المسلم الذى يريد لنفسه الإسلام الصحيح ’ فكيف بمن يريد أن يضع نفسه موضع الداعى الى الله و المرشد الى الطريق الحق .
وحكمة ذلك أن للنفس الإنسانية آفات لا يقطع شرتها إلا دواء العزلة عن الناس ’ ومحاسبتها فى نجوة من ضجيج الدنيا ومظاهرها . فالكبر ’ والعجب ’ والحسد ’ والرياء ’ وحب الدنيا - كل ذلك آفات من شأنها أن تتحكم فى النفس وتتغلغل الى أعماق القلب ’ وتعمل عملها التهديمى فى باطن الإنسان رغم ما قد يتحلى به ظاهره من الأعمال الصالحة ’ والعبادات المبرورة ’ ورغم ما قد ينشغل به من القيام بشؤون الدعوة و الإرشاد وموعظة الناس . وليس لهذه الآفات من دواء إلا أن يتخلى صاحبها بين كل فترة و أخرى مع نفسه ليتأمل فى حقيقتها ومنشئها ومدى حاجتها الى عناية الله تعالى وتوفيقه فى كل لحظة من لحظات الحياة ’ ثم ليتأمل الناس ومدى ضعفهم أمام الخالق عز وجل وفى عدم أى فائدة لمدحهم أو قدحهم ’ ثم ليتفكر فى مظاهر عظمة الله تعالى وفى اليوم الآخر وفى الحساب وطوله ’ وفى عظيم رحمة الله تعالى وعظيم عقابه . فعند التفكير الطويل المتكرر فى هذه الأمور تتساقط تلك الآفات اللا حقة بالنفس ويحيى القلب بنور العرفان و الصفاء ’ فلا يبقى لعكر الدنيا من سبيل الى تكدير مرآته .
وشىء آخر له بالغ الأهمية فى حياة المسلمين عامة وأرباب الدعوة خاصة : هو تربية محبة الله عز وجل فى القلب ’ فهو منبع التضحية و الجهاد وأساس كل دعوة متأججة صحيحة ’ ومحبة الله لا تتأتى من مجرد الإيمان العقلى به ’ فالأمور العقلانية وحدها ما كانت يوما لتؤثر فى العواطف و القلوب ’ ولو كان كذلك ’ لكان المستشرقون فى مقدمة المؤمنين بالله ورسوله ’ ولكانت أفئدتهم من أشد الأفئدة حباً لله ورسوله ’ أو سمعت بأحد من العلماء ضحى بروحه إيماناً منه بقاعدة رياضية أو مسألة من مسائل الجبر ؟ .
وإنما الوسيلة الى محبة الله تعالى - بعد الإيمان به - كثرة التفكر و التأمل فى مدى جلاله وعظمته ’ ثم الإكثار من ذكره سبحانه وتعالى بالقلب و اللسان ’ وإنما يتم كل ذلك بالعزلة و الخلوة و الإبتعاد عن شواغل الدنيا وضوضائها فى فترات متقطعة متكررة من الزمن .
فإذا قام المسلم بذلك وتهيأ له أداء هذه الوظيفة ’ نبتت له من ذلك فى قلبه محبة إلهية عارمة ’ تجعله يستصغر كل عظيم ’ ويحتقر كل مغرية من المغريات ’ ويستهين بكل إيذاء وعذاب ’ ويستعلى فوق كل إذلال أو إستهزاء’ فتلك هى العدة الكبرى التى ينبغى أن يتسلح بها الدعاة الى الله تعالى ’ وتلك هى العدة التى جهز الله بها نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم للقيام بأعباء الدعوة الإسلامية . ذلك لأن الدوافع الوجدانية فى القلب من خوف ’ ومحبة ورجاء تفعل ما لا يفعله الفهم العقلانى المجرد . ولقد أجاد الشاطبى رحمه الله عندما فرق فى هذه الدوافع بين عامة المسلمين الذين دخلوا فى ربقة التكاليف بدافع من عموم إسلامهم ’ وخواصهم الذين دخلوا فى ربقة هذه التكاليف يسوقهم ما هو أشد من مجرد التعقل والفهم ’يقول : (فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد ’ والثانى حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف و الرجاء و المحبة ’ فالخوف سوط سائق ’ والرجاء حاد قائد ’ و المحبة تيار حامل ’ فالخائف يعمل مع وجود المشقة ’ غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقاً ’ والراجى يعمل مع وجود المشقة أيضا ’ غير أن الرجاء فى تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب ’ والمحب يعمل ببذل المجهود شوقاً الى المحبوب ’ فيسهل عليه الصعب ’ ويقرب عليه البعيد ’ وتفنى القوى ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة ) .
واتخاذ الوسائل المختلفة لتحقيق هذه الدوافع الوجدانية فى القلب مما أجمع المسلمون على ضرورته ’ وهو ما يسمى بالتصوف عند جمهور العلماء و الباحثين ’ أو بالإحسان عند بعضهم ’ أو بعلم السلوك عند بعض آخر كالإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
والإختلاء الذى كان يمارسه صلى الله عليه وسلم قبيل البعثة كان واحدة من هذه الوسائل لتحقيق هذه الدوافع نفسها . بيد أنه لا ينبغى أن يفهم معنى الخلوة كما شذ البعض ففهموها حسب شذوذهم ’ وهو الإنصراف الكلى عن الناس واتخاذ الكهوف و الجبال موطناً واعتبار ذلك فضيلة بذاتها .
فذلك مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم ولما كان عليه عامة أصحابه’ إنما المراد هو إستحباب إتخاذ الخلوة دواءً لإصلاح الحال كما ذكرنا ’ والدواء لا ينبغى أن يؤخذ إلا بقدر ’ وعند اللزوم ’ وإلاّ إنقلب الى داء ينبغى التوقى منه ’ وإذا رأيت فى تراحم الصالحين من استمر على الخلوة والإبتعاد عن الناس ’ فمردّ ذلك الى حالة خاصة به ’ وليس عمله حجة على الناس .