العبر و العظات :
يدل حديث بحيرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو حديث رواه عامة علماء السير ورواتها وأخرجه الترمذى مطولا من حديث أبى موسى الأشعرى على أن أهل الكتا ب من يهود و نصارى ’ كان عندهم علم ببعثة النبى صلى الله عليه وسلم ومعرفة بعلاماته ’ وذلك بواسطة ما جاء فى التوراة و الإنجيل من خبر بعثته وبيان دلائله و أوصافه ’ والدلائل على ذلك كثيرة مستفيضة .
أما إقباله على رعى الأغنام لقصد إكتساب القوت و الرزق ففيه ثلاث دلائل هامة :
الأولى : الذوق الرفيع و الإحساس الدقيق اللذان جمّل الله بهما نبيه صلى الله عليه وسلم لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة ’ وكان له فى الحنو و الشفقة كالأب الشفوق ’ ولكنه صلى الله عليه وسلم ما إن آنس فى نفسه قدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب ’ ويجهد جهده لرفع بعض ما يمكن رفعه من مؤنة الإنفاق عن عمه . وربما كانت الفائدة التى يجنيها من وراء عمله الذى إختاره الله له ’ فائدة قليلة غير ذات أهمية بالنسبة لعمه أبى طالب ولكنه على كلّ تعبير أخلاقى رفيع عن الشكر ’ وبذل للوسع ’ وشهامة فى الطبع ’ وبر فى المعاملة .
الثانية : وتتعلق ببيان نوعية الحياة التى يرتضيها الله لعباده الصالحين فى دار الدنيا ’ لقد كان سهلا على القدرة الإلهية أن تهىء للنبى صلى الله عليه وسلم ’ وهو فى صدر حياته ’ من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعياً وراء القوت . ولكن الحكمة الإلهية تريد منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما إكتسبه بكد يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبنى جنسه ’ وشر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أى تعب فى سبيله ’ ودون أن يبذل أى فائدة للمجتمع فى مقابله .
الثالثة : إن صاحب أى دعوة ’ لن تقوم لدعوته أى قيمة فى الناس إذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته أو على أساس من عطايا الناس وصدقاتهم ’ ولذا فقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أحرى الناس كلهم بأن يعتمد فى معيشته على جهده الشخصى أو مورد شريف لا إستجداء فيه حتى لا تكون عليه لأحد من الناس منّة أو فضل فى دنياه فيعيقه ذلك عن أن يصدع بالحق فى وجهه غير مبالى بالموقع الذى تقع من نفسه . وهذا لامعنى وإن يكون قد خطر فى بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الفترة ’ إذ أنه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأن الدعوة و الرسالة الإلهية - غير أن هذا المنهج الذى هيأه الله له ينطوى على هذه الحكمة ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لا يكون فى شىء من حياة الرسول قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أى تأثير سلبى فيما بعد البعثة .